الإدخار و الأزمة مع الصرار و النملة




الإدخار و الأزمة مع الصرار و النملة

تمهيد:

عندما تكون الدول في حالة ازمة، فإن مؤسساتها و نخبها العلمية، و الاكاديمية، و السياسية، و رجال الاعلام، و الاعمال، و حتى العمال...  كلها فئات تجتهد لتصنع الحلول لهذه الازمات بكل السبل، خصوصا إذا كانت طبيعة هذه الازمة إقتصادية، لان الازمات من هذا النوع تؤثر على العامة من الكادحين، والمقاولات، والكيانات الاقتصادية، و كذلك المؤسسات العمومية، بسبب ارتباط تمويل حلولها بحالة الاقتصاد. 
الى هنا قد تبدو الأمور طبيعية، لكن وهنا تكمن المفارقة عندما تكون الدول في حالة ازدهار فإنها  تستشعر الكثير من القوة تنسى معه أزماتها السابقة، و تنسى الإدخار إستعدادا لأزمات أخرى، كجزء من  طريقة إدارة الإقتصاد الكلي.  وإذا فعلت ذلك فإن الأغلبية لا تفعله بالشكل الكافي، وبما أن الإقتصاد سريع التأثر بالظروف المحيطة، خصوصا السياسية، والأمنية، و الطبيعية ... فهو يعيش على وقع حالة من التذبذب بين النتائج الجيدة و الحصيلات السلبية، و تبعا للظروف المحيطة.

مفهوم الإدخار:


  وهنا للإستئناس نورد قصة النملة، والصرار،  إنها قصة تاريخية تلخص مفهوم، و أهمية الإدخار، على سبيل دمج حالة القيم الإقتصادية، وتحليلاتها في قالب، وصياغة أدبية، وحبكة تبسط تعقيدات المعطيات الإقتصادية، و رتابتها بالأرقام الجافة، والمعتمدة على حسابات مغلقة. 
لنبدأ من مواسم الإزدهار حيث تفرغت النملة للعمل، وتفانت فيه، في فصلي الربيع، والصيف، في ذات الوقت كان الصرار منشغلا باللهو، والإستماع، وحتى التسكع. هذا عن البداية الأدبية لمغزى المطلوب، في تحديد مفهوم لقيمة الإدخار الإقتصادية، التي تكمن في تبني الحكومات لسياسات إدخار، عبر صناديق سيادية، وصناديق إحتياطية، وهنا ليس بالضرورة أن يكون الإدخار على شكل سيولة نقدية، فقد يكون على شكل إحتياطي من الذهب، على شكل سبائك، أو إحتياطي نفطي قابل للبيع، و التداول، أو منقولات، أو عقارات، أو أي شكل من أشكال الثروة التي قد تضطر لإستخدامه في الأزمات، أو لتمويل إستثمارات كبرى، أو بنى تحتية، أو تسديد ديونها الحكومية أو ماشبه من النفقات... المهم أنه يتم وضع جزء من فائض المداخيل الهائلة للحكومات، في حسابات خاصة، ليتم التصرف في هذه الأموال لاحقا، بشكل مدروس، ومخطط له.

الأدوار:


 لعل المعطيات السابقة توضح كمفهوم توضح فوائد الإدخار، حتى بالنسبة للنملة الصغيرة التي كدت في موسم الكد، وإدخرت لوقت الشتاء حيث الكساد، و إندثار القدرة على العمل، وإن كان المتحكم في قصة نملتنا البطلة الصغيرة هو الظروف المناخية و الطبيعية التي دأبُها التغيير المستمر عبر الفصول، حيث إستطاعت التكيف من خلال إعداد نفسها من خلال التخزين، و الإدخار إستعدادا  لظروف قاسية توقعتها بفطرتها البسيطة، ونجحت بتحويل ساعة إزدهارها إلى ساعة كد، وجهد، و العمل بحكمة. 

كذلك بالنسبة  للدول، من بينها من تكون لها من الخبرات و الوعي الإقتصادي، ما يسمح لها بتوقع الأزمات والإعداد لها، و الذي يبدأ من الإدخار، الذي يوفر قدرة إحتياطيات مالية، غير مدرجة في بنود الميزانية، كبنود  تمويلية قابلة للتصرف فوريا، وإنما يتم إدراجها كجزء من السيولة النقدية المؤمِنة للأسواق، خصوصا إذا كانت من العملة الصعبة، حيث يكون بإمكان الحكومات تغطية النفقات الداخلية، والخارجية، حتى في حالة الحروب، أو النزاعات، والعقوبات القانونية، أو الحصار السياسي، والإقتصادي...

 وهنا تظهر الأهمية الحقيقية لقيمة الإدخار، عندما يصبح طوق النجاة، الذي يخرج الأمم من ضيق إستعدت له بحكمة، عبر الكد، وقت الرخاء، بالإدخار بدل الإسراف، و التبذير، إلى سعة ورخاء مع وجود الأزمات، إنها ربما الحكمة الحقيقية من حسن التدبير كله، و السياسات الحكيمة لإدارة الإقتصاد، الذي يبدأ بالإنتاج وصولا، إلى الإستهلاك، وهذه الحكمة وردت في أحد الأمثلة التاريخية الموثقة في قصة سيدنا يوسف،  النبي الذي كيَّف و دبر عملية الإنتاج، ونماها إلى مرحلة التخزين إدخارا لسنوات القحط، والجفاف، حيث تتوقف دورة الإنتاج الزراعي، و يعيش السكان على المخزون الذي تم تخزينه من قبل. 

 وصولا إلى مرحلة تدبير المخزون في سنوات القحط نفسها، والتوزيع العادل للموارد المتاحة، بما يتناسب مع مدة مكوث الأزمة، وطولها، لتجاوز تبعاتها وآثارها السلبية.
 إنها قصة نجاح إقتصادي حقيقي لعبت فيه قيمة الإدخار دور مفتاح الحل، وقارب النجاة الذي من خلال إدارته الحكيمة، تم التغلب على أزمة، في تحليلها مركبة بين الطبيعي المناخي و صراعات سياسية لتدبير مداخيل الإزدهار، على مبدأ التغير والتقلب في كل من الظروف المناخية، و الطبيعية، والإقتصادية معا. 

إذا أردنا الخروج بطرح علمي يعرف الدور العلمي للإدخار المالي مثلا، وليس حصرا للمعنى والفكرة، تعتبر سياسات الإدخار وسيلة غاية في الناجعة، و من الركائز الأساسية في علم الإقتصاد، لتدبير إشكالية الفائض المالي، و توجيهه نحو عمليات الإدخار، و تدبير أزمة نقص السيولة بالإعتماد على المدخرات، ويراد منه تخزين وتوفير جزء من المال بقصد إستعماله في وقت لاحق، بتخزين الفائض عن الحاجة، حتى يتمكن القائمون على تدبير الاقتصاد من صرفه وقت الاحتياج له.

إن المسألة عبارة عن تخصيص مدخرات للنفقات غير المتوقعة، أو الأزمات المتوقعة مثل تمويل طارئ لبنية طبية في حالة وباء، أو كارثة طبيعية، مثل زلزال، أو فيضانات، يمكن أيضا أن يساعد الحكومات على تجنب الديون الطارئة بفوائد عالية. بما يسمح أيضا بالتحضير لأهداف طويلة الأجل، من خلال إعداد تدريجي لقيمة التمويلات المرتقبة، و بأريحية.

الحكومات التي لاتشجع سياسات الإدخار، تجد صعوبة في تدبير مسألة التمويل، وحتى في البحث عنه، في أروقة  المؤسسات المالية الدولية، فمثلا إنعدام الإدخار أو قلته، يؤدي إلى تخفيض التصنيف الإئتماني للحكومات لدى المؤسسات المالية الدولية بإعتباره واحدا من المعايير المأخوذ بها في منح القروض، و أيضا بإعتباره شكل من أشكال الضمانات، لدى المؤسسات المقرضة، و دليل على وجود القدرة على السداد حتى في حالة التعسر.
 

معدلات الإدخار العالمية:


هناك عوامل تساعد على الإدخار لدى الحكومات، مثل ضبط وترشيد النفقات، وتدقيق الحسابات، والإقتصار على الضروريات، دون الكماليات، من غير الوقوع في التقشف، عبر التخلص من بنود مالية غير ضرورية، وإعادة توجيهها نحو قطاعات اكثر حيوية، و اكثر جدوى، و التي تكون بصدد العمل عليها، لكن ما إن تتحقق أسباب الإدخار، و على رأسها فائض في الدخل، ويتم تجميع المال بتحقق نصاب القيمة المتوقعة، و المأمولة،  المبرمجة في النفقات العمومية، لتمويل نفقات، أو إستثمارات، حسب الأهداف المسطرة في مخططات مظبوطة، يكون حينها الادخار وصل الى تحقيق الهدف المرجو منه. كما لا يمكن تطوير المدخرات إلا بزيادة الدخل وهذا يحدث في أوقات الرخاء، لأن نسبة الإدخار تنخفض عند ٱنخفاض الدخل. 

تعتبر سويسرا من بين الدول الأكثر إدخارا على مستوى الفرد و الأسرة  في العالم بمعدل % 627,8. بالنظر إلى أن فرق الدخل بين سويسرا مع بقية الدولة هو من بين  الأعلى في العالم، بحسب موقع هاوس ماتش و من خلال خارطة عالمية تشمل 25 دولة من دول العالم الاكثر تقدما داخل المنظومة الغربية،  هكذا وصل أدنى معدل للادخار في العالم الى 4.7 %، أما في المغرب، و في سنوات جائحة وباء كورونا،  أكدت المندوبية السامية للتخطيط أن %98، من الاسر المغربية لم تعد قادرة على الادخار  بالمطلق، بينما ستين بالمئة من من مجموع الاسر تنهي نفقات آخر الشهر بالقروض.

و في نهاية سنة 2022 و بداية 2023 ظهرت بشكل جلي القيمة الحيوية لبقاء، و تطوير الاقتصاد من خلال عملية الادخار، لقد خرج العالم لتوه  في هذه اللحظة التاريخية، من ازمة وبائية بآثار إقتصادية مدمرة مع ازمة مياه و إرتفاع الاسعار ... 
حيث تم إغلاق مظاهر الحياة العامة، و المرافق الاقتصادية، و الاسواق، و تعطيل حركة النقل، و إغلاق الاقتصاد، لقد عاش العالم فعلا على مدخراته، و لو لم تكن هذه المدخرات، لكان لا يمكن تجاوز  آثار الكارثة الوبائية  بالنظر إلى محدودية الاقتصاد، و لكان الامر وصل إلى  تهديد وجود الامم، و دول كثيرة إقتصادها هش، و ضعيف،  بسبب تظافر آزمات البيولوجية، و إغلاق الاقتصاد، و ما خلفه من إنهيارات مالية، و إقتصادية عبر العالم، و بالنظر أيضا الى إحتدام الحرب الراهنة في اوكرانيا، و إندلاع الحرب في غزة، و ايضا التهديدات المستمرة في تايوانن حول مسألة نشوب حرب اخرى في بحر الصين الجنوبي، بالاضافة الى إغلاق باب المنذب و أثره على الملاحة و التجارة الدولية ... 

عناصر تفرض الإدخار:


إن تظافر العناصر الطبيعية، و العوامل البشرية لتساهم في خلق حالة من الاستنزاف المالي، الذي قلص نسبة الادخار، و حجم المدخرات خصوصا، بعد تقلص مناصب الشغل في العالم، و تحول الكثير من الاسر و الافراد إلى تلقي المساعدات المالية، و العينية من الحكومات، و معلوم أنه بدون دخل لا يمكن الادخار، بعد سرد مجموعة من الظروف المؤثرة التي تعطي مؤشر نسبي، سلبي على حجم الادخار في العالم، من خلال الدخل بشكل رئيسي في المستقبل، و ما مدى إمكانية تحقيق الأمر في المستقبل،  لكن بسبب الأزمات، و الكوارث، المتكررة، صار على الحكومات التحسيس بأهمية الإدخار من داخل المجتمعات، خصوصا  على مستوى الأسر حيث نسبة الإعالة مرتفعة جدا، و حيث مظاهر التضامن كبيرة جدا، و تساهم في مقاومة  ومواجهة الكثير من أنواع الأزمات، و الظروف الإقتصادية، و الإجتماعية، مع توضيح أنجع الطرق والمعادلات الحسابية لتحقيق إدخار أسري قار، وثابث.

 كما على الحكومات نفسها إنتهاج سياسات لتغذية الصناديق الإدخار الوطنية، بما فيها صناديق التقاعد بالسيولة النقدية بشكل مسترسل، و العمل على تطوير حجم الأموال المدخرة من خلال عائدات الإستثمار، بما فيها  الإستثمار في القطاع المالي، و المضاربات المالية، مثل المضاربة المالية في بورصات الأسهم، أو مباشرة في قطاعات ذات مردود عالي، لتطور من حجم وقيمة الأموال المدخرة، وإنشاء المؤسسات المالية التي تشجع على إيداع الأموال، و التوفير، وإدخارها بنسب فائدة عالية جدا من خلال هذه المؤسسات،  بقصد التمكن من تحسين شروط الإدخار، لتوفير السيولة الكافية على مدى السنة المالية لدى الحكومات دون الحاجة إلى قروض، أو الدخول في متاهات سياسات السداد، و شروطها القاسية على الاقتصادات الناشئة، و التي تكون أكثر إحتياجا للقروض بسبب دخولها في خطط تنموية، و إستثمارية، و بسبب وإملاءات المؤسسات الدولية المجحفة التي تستهدف  تحويل الدول من دورها الأولوي، و هو خدمة الشأن العام، و تقديم الخدمات الحيوية العمومية، إلى كيان قائم على خدمة أداء الديون الخارجية. 

تقرير العوامل:


إنطلاقا من التقرير السنوي لصندوق النقد الدولي لسنة 2022، حول الظرفية العامة الإقتصادية، و المالية حول العالم، حيث يؤكد التقرير وجود تحديات، وصعوبات بدأت بإنتشار الجائحة، وتداعياتها وآثار الحروب في أوكرانيا، والتوترات السياسية  في الشرق الأوسط، وبحر الصين الجنوبي... وغيرها، وكذلك التغيرات المناخية، وآثار الثورة الرقمية على العالم من الناحية الإقتصادية، مع العلم أن المغرب غير نخرط بأي شكل في هذه الثورة الرقمية، كلها وقائع تحيل على أن هناك تصدع وإنهيارات على مستوى الإقتصاد،  و السياسة ، و الجغرافية... و من داخل المنظومة المالية والإقتصادية العالمية. 

أمام هذه الظروف يرى التقرير أن العديد من البلدان ستكون محتاجة فعليا إلى مساعدة مالية وإقتصادية. وحسب تقرير صندوق النقد الدولي دائما، فإنه سيكون في المستقبل صعب جدا الحفاظ على تماسك المنظومة المالية الدولية، وشبكتها الموثوقة للأمان المالي العالمي. كما يشكل من بين أهم إنشغالات صندوق النقد الدولي ترقب إنهيار المنظومة المالية الدولية بسبب الضغط الكبير من طرف البلدان على موارد مالية  محدودة، بما يصعب أكثر مهمة تقديم أفضل سبل الدعم المالي  و الحلول التمويلية الدولية، لتكون أكثر نجاعة في فترة الأزمات، و الكوارث، و حتى  في  الصراعات  و الحروب (مثلا حرب إسرائيل على غزة، في 7 من أكتوبر 2022،  حيث عمدت إسرائيل  إلى الإقتراض  من المؤسسات الدولية،  لتغطية نفقات الحرب التي تخوضها إلى حدود هذه الساعة).

صندوق النقد الدولي:


 ويعمل الصندوق الدولي على إعادة النظر فيما يقدمه من خدمات إستشارية، في مواضيع السياسات النقدية، و معاملات، وأنشطة الإقراض، و القروض، وتطوير القدرات المالية... من خلال إحداث الصندوق الإستئماني للصلابة والإستدامة، في أبريل 2022.
 يمكن أن نستشف من خلال تقرير صندوق النقد الدولي،  أن كل تصورات الحلول التقنية المالية للدول، تنطلق من تحويل مخصصات مالية، لصناديق ربما تكون مؤجلة الإنفاق، إلى وقت حدوث الأزمات، على شكل خطوط إئتمانية،  يتم اللجوء إليها من طرف البلدان المتعسرة  ماليا، أو التي  تمر في ظروف إسثتنائية،  مثل الحروب،  أو الكوارث، أو أزمات مالية، و إقتصادية... 

إن فكرة صندوق النقد الدولي،  بتحويل مخصصات مالية نحو صناديق على شكل خطوط إئتمانية للإقراض، والمساعدة المالية، يصب في مركز بؤرة فكرة المقال، وهي تتمحور حول  كون أن الإدخار هو حل حقيقي للأزمات، و الكوارث حتى قبل أن تقع، فإذا وقعت وجدت إعداد، و إستعداد لمواجهتها، و وجدت البلدان نفسها قادرة على مواجهة هذه الأزمات، على الأقل ماليا دون السقوط في متاهة البحث عن التمويلات، مع الشروط المجحفة، التي يتم القبول بها نتيجة ضيق الوقت، والحاجة الملحة  للتدخل بسرعة، لإستدراك الآثار الضارة للتفاقم التدريجي لنتائج الأزمة، على كل المناحي في أي بلد تحدث فيه. 

رأي:


وفي تقديري الشخصي وهو مجرد رأي في النهاية، يتوجب على الحكومات، وخصوصا  الجهات الوصية، على القطاع المالي أن تخصص سنويا ما يعادل %5، من مجموع الموارد المالية، لتتم إضافتها إلى صناديق الادخار، و الصناديق السيادية، التي تمكن من تجميع كميات كبيرة من السيولة النقدية، على مدى مخططات متوسطة، إلى بعيدة الاجل، من دون أن يُحدث الامر أي عجز على مستوى الموازنة العامة، أو اي ازمة سيولة، او في المالية، و الاسواق المالية لاي بلد.

هنا يمكن طرح سؤال جوهري، و عميق مفاده، إن تجميد %5 ، من الموارد المالية، كل سنة من خلال إيداعها صناديق للإدخار، بما يعطل الكثير من بنود الموازنة العامة، و يقلص حجم السيولة، التي قد تساهم بشكل فوري في تمويل الكثير من المشاريع، و النفقات سواء على مستوى البنية التحتية، او تمويل الكثير من الميزانيات العمومية... بما يخدم الصالح العام، و الشأن الاقتصادي بأثر فوري.
قد تكون هذه السؤال صحيحا إلى حد ما، طالما لم نأخذ بعين الاعتبار، الأزمات، و الكوارث، و النفقات الطارئة، و العاجلة... التي حتما ستواجه أي بلد، وهي في مسار تطور أي امة، و منظومتها الإقتصادية، خصوصا ان التوقعات، و التنبؤات العلمية في المجال الاقتصادي، هي نفسها دائما تترك هامش للمجهول قد تحدث فيه امور،  و ازمات غير متوقعة تماما، مما ينتج عنه إنهيارات إقتصادية، و مالية، و أزمات، لا ينفع معها حسن التدبير وحده، بل يجب التوفر على خطط، و إستراتيجيات مسبقة، و إستعداد مالي، سالف الاعداد يمكن من تقليص الاضرار، و السيطرة السيريعة على تبعات الازمات المالية، و الاقتصادية، و كل الاعداد، و العمل الاستباقي، يتم لمواجهة هذه الازمات بمنطق، انها ستحدث في المستقبل او قائمة، و ينطلق من سياسات معقولة للإدخار تمكن من تجاوز مشاكل التمويل الطارئ، و تمكن من  الاستغناء عن الاقتراض لتمويل مشاريع، و إستثمارات كبرى، و طموحات إقتصادية للشعوب و الدول.

توقع الصدمات:


في النهاية، و إن كدت نملتنا البطلة الصغيرة، التي تركناها في بداية المقال، قد كدت بجد، فإن لها بصيرة، و رؤيا عملت عليها بتفاني، للوصول الى حالة من التكيُّف مع ظروف قاهرة نجحت في تجاوزها بحكمة.
ربما يعيش الجميع محنة قسوة ظروف مالية إستثناىية، فالازمات بطبيعتها ظروف إستثنائية بكل تفاصيلها. هنا تكون النملة الجادة، الكادة مرتاحة  نتيجة  سياستها الحكيمة، و الاستباقية، و بُعد نظرها الثاقب، الذي مكنها من التعامل الجيد، لمعالجة معطيات أزمة مرتقبة بحنكة و دهاء. 

أما الصرار الذي أمضى وقته في الاستمتاع  بظروف الرخاء المؤقتة، التي لا تدوم أبدا، متناسيا، لاهيا، حتى إذا تغيرت الظروف، و من الحتمي أن تتغير، و متوقع  تغيرها، فقد وقع  في عواقب تفريطه، و إهماله التفكير في المستقبل، و التغييرات التي يحملها في طياته...
و لانه لم يشتغل في الاعداد، و الاستعداد لما ينتظره، كان من الخاسرين، و هذا حال الدول و المجتمعات التي لا تحسب حساب تغييرات في خانة الحتمية في مسار تطورها الإقتصادي، و تغييرات طبيعة، بما تفرزه ازمات مختلفة النوع، و الحجم، و التفاعل مع كل منها مختلف، و مسار التطور الازم لحل الأزمات نفسها، و التأثيرات المجهولة في ابعاد هذه الازمات، و كذلك من حيث التفاصيل المتشكلة منها، إلا انها و إن كانت مجهولة المعالم أو مرتقبة، فهي حتمية الحدوث.

ليبقى الادخار أفضل، و أنجع أسلوب للإستعداد للأزمات الطارئة، أو الاستحقاقات سواء إقتصادية، أو كوارث طبيعية، أو حتى مشاكل سياسية، و سوسيو إقتصادية.

غطاء الإدخار:


الادخار عنصر من عناصر الوعي الاقتصادي الفردي، و الأسري و المجتمعي، و ايضا تحتاج اليه المؤسسات، و الكيانات، بما فيها المقاولات الخاصة، و العمومية، و حتى الحكومات التي ستكون قادرة على بيع سندات، و إجراء مضاربات مالية كبرى، و عمليات إكتتاب، تحت غطاء حجم الادخار، و حجم الاحتياطي النقدي، و مخزون الذهب، و الأصول الإحتياطية  لديها... هذه العناصر التي تتحول هنا إلى مقياس فعلي، يحدد بدوره قيمة العملات، كما يؤثر الادخار مباشرة على حجم إحتياطي السيولة، و مراكمة الثروة، و كذلك التمويل المالي الغير مكلف، و ايضا تمويل الاقتصاد، و الاستثمار، و التمويل السوسيو إقتصادي، و التنمية المستدامة.

فوائد الإدخار:


على الرغم من ان المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب، و في تقريرها حول الادخار، لسنة 2023، أكدت أن%2، من الاسر المغربية فقط هي التي إستطاعت الادخار، لقد تضمن التقرير أيضا عن نسب مخيفة عن إرتفاع نسبة الفقر في المغرب، و بنسب محدودة جدا من مجموع مداخيلها. ليبقى الادخار دعامة أساسية للتمويل، في يد الافراد، و المجتمعات، و الكيانات الاقتصادية، أو ذات الطبيعة العمومية...
 ليبقى الإدخار، و سيلة آمنة من المخاطر، لخلق، و تنمية الثروات، و توفير التمويل للإستثمار، و غيره من الإحتياجات، و يعزز قيمة العملة الوطنية، بما يسهم في الاستقرار المالي للحكومات، و توازناتها الاقتصادية، و دعم المخططات، الاقتصادية المتوسطة، و البعيدة المدى، و يمكن الدول من الإفلات من الاقتراض، و  القيود، و الشروط التي يفرضها المقرضون من المؤسسات المالية الدولية، كما أن الادخار يمكن من  و إكتساب مرونة و ليونة في معالجة الازمات الاقتصادية المتنوعة، و لو كانت طارئة، و لعل أي إقتصاد يعتمد على رؤيا و إدارة تعتمد على الادخار، و من خلال برمجة آجال، و مواعيد مستقبلية، و مشروطة للقدرة، على الادخار، و توفير التمويل، فإن هذا الاقتصاد يملك فعليا رؤى مستقبلية، و العمل في إطار منظوماته  القانونية، و التنظيمية، جيد جدا، للإستثمار، و لحفظ الازدهار.

خاتمة:


ليظل أبرز مثال على حكنة، و حكمة، و نجاح فكرة تبني سياسات إدخار في مختلف المجتمعات المعاصرة، هو ما وقع في تركيا،  و التي إمتدت فيها الازمة عشر سنوات، من سنة 2013، و الى حدود  بداية السنة الحالية 2024، رغم حدوث هزات إرتدادية متوالية و تمخضات فاقمت في مراحل عدة الحدة في أزمة الليرة التركية مقابل الدولار، منذ إنطلاقها. هذه الازمة كشفت أن الشعب التركي كانت لديه ذاكرة إقتصادية عريقة، و حية، و عرف من أزمات، و تقلبات الايام الخوالي، ربما حتى قبل تولي العثمانيين لسلطة الخلافة العثمانية، و ان الأزمة الإقتصادية قادمة، إلى درجة أن هذه الذاكرة سجلت الحلول، و وثقتها.

 كشفت أيضا أزمة إنخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار، في سوق تداول العملات، أن الشعب التركي كان يكتنز اكثر من 250 مليار دولار، من المدخذرات على شكل عملة صعبة، و سبائك ذهب، و مجوهرات، و أشكال أخرى من الادخار العيني لمنقولات،و مقدرات، و ترواث، أصبحت معها الدولة في غنى عن أي مساعدة، أو قروض، بل إستطاعت مع وجود مدخرات بهذا الحجم، تدبير أعقد، و أصعب مراحل الازمة بأريحية كبيرة، إلى أن تم تشخيص الازمة، و طبيعتها، و ايضا إلى أن نضجت الحلول، و تبلورت على مهل، و كل هذا كان يحتاج لوقت، يمر فيه العمل خلال مراحل متعددة، و الوقت هو المال، فكل مرحلة يكون فيها تحضير، و تنفيذ الحلول  يتطلب تمويل اكثر حتى بالنسبة للدراسات كذلك.

 من دون إدخار، ما كان  الرئيس التركي أردوغان، و فريقه الاقتصادي إستطاعوا معالجة أزمة قيمة الليرة مقابل الدولار، على المديين القصير، و المتوسط، بسبب إن العمل يكون فقط بالتخطيط، على أساس أن التنفيذ يكون لما خطط له سلفا، و أُدِّخِرَ تمويله، على وجه الخصوص، بما يسمح بإستمرار بإعادة النظر في المخططات بتحيينها، و تصحيحها بشكل مستمر، و هذا الامر يؤدي، ليس فقط إلى الحفاظ على الازدهار الاقتصادي على المدى البعيد، بل ايضا يمكن الدولة من الدقة، و الاستمرار في تطوير دقة العمل، عبر المراجعة الدائمة، و يعطي هامش زمني، للتكيف مع الظروف الاقتصادية المتقلبة بشكل دائم.


المشاركة التالية المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url

مشاركات مشابهة