العقلية الاقتصادية
العقلية الإقتصادية
منطلق:
التنافس المحموم:
ازاء ازمة تصريف المنتوج الخارقة للعادة، و التي عمرت طويلا، في اوروبا و لم يكن لها حل، إلا بالاستمرار في التوسع الجغرافي عبر إستغلال التفوق التقني و العلمي.
إلى هنا ظهر تنافس شديد بين الدول الاوروبية في بداية القرن السابع عشر إستمر إلى بداية القرن التاسع عشر، حول الأسواق أو المستعمرات، بدأ التنافس يتحول الى شرس فيما بين هذه الدول بفعل تضرر المصالح المادية من جهة و بفعل التنافس و الصراع السياسي و الثقافي، هنا إنقسم الغرب إلى قسمين محور بزعامة ألمانيا، بحكم انها أكثر الدول الاوروبية تطورا و سبقا إلى التكنولوجيا و الصناعة أفرز ان كانت تعاني من ازمة تصريف منتوجاتها الصناعية أكثر من غيرها لذلك إعتبرت أن تقاسم المستعمرات بالشكل الذي وقع لم ينصفها عبر خريطته السياسية ، و حلفاء، بزعامة الولايات المتحدة و بريطانيا اكبر دولة إستعمارية في التاريخ و مازال لديها إلى اليوم مستعمرات من جملتها أستراليا، أقول بزعامة الولايات المتحدة الامريكية بفعل تجمع رأس المال و تطور الإنتاج بكميات غير مسبوقة، لذلك رأت ان من حقها الهيمنة على المستعمرات و الاسواق و المقدرات و الشعوب، إستعداد لخوض الحرب العالمية الاولى، أوصل إليها هذا التنافس المحمومبين القوى الصناعية و الرأس مالية الكبرى.
لقد سميت بهذا الاسم علميا و تاريخيا لان القوى الكبرى الاوروبية خاضت هذه الحرب و المستعمرات و هي تعتبرها أقاليم، او محافظات جزء من هذه الدول و القوى الكبرى جغرافيا و سياسيا، و لان الحرب إمتدت رقعتها و مسرح القتال فيها أول مرة على نطاق عالمي جغرافيا.
الحرب العالمية الأولى:
انتهت هذه الحرب العالمية الاولى، بخسارة دول المحور للمعركة، ما ترتب عليه أوضاع جديدة تم إلزام ألمانيا فيها بمجموعة من الالتزامات التعجيزية التي لم يتحملها إقتصادها، و لا جيشها تهدف إلى تحجيم قدرات ألمانيا المنطلقة بوتيرة جنونية، و منظومتها السياسية، و الاجتماعية و الايديولوجية، فجاء الفكر النازي، ليحاول تحرير المصالح الالمانية من القيود السياسية، و الإقتصادية المفروضة منذ الحرب العالمية الاولى، لكنها لم تجد سبيلا غير الحرب و القوة إذ لم تسمع دعواتها و خطابها السياسي لضرورة إيجاد حل لمشكلة تصريف فائض الانتاج، و ايضا الحصول على جزء من كعكة المستعمرات للحصول على موارد طبيعية لتغذية الصناعات الالمانية الجبارة.
كانت الحرب العالمية الثانية، نتاج تحول تكنولوجي و تفوق عسكري الماني غزت بواسطته دول اوروبا نفسها مثل هولندا، و فرنسا، و غيرهما ...
الحرب العالمية الثانية:
بالإضافة الى محاولة انتزاع جل المستعمرات الغنية بالموارد الطبيعية، من بقية الدول الاوروبية، لقد كانت نتائج الحرب العالمية الثانية، كارثية على المستوى الانساني، بموت خمسين مليون إنسان عبر العالم، في صراع من أجل تحقيق حلم الهيمنة و الاستحواذ، و التملك، و بخسارة الألمان للحرب مرة ثانية، تفجرت تحولات جذرية على خارطة الصراع الدولي و طبيعته، الذي اخذ أكثر شكل صراع قيم و مبادئ و مفاهيم إقتصادية أصبحت هي المفاتيح الأساسية لغزو الأسواق ، دون الحاجة الى ارسال القوة لفعل ذلك فيما سمي بعد الحرب العالمية الثانية، بالحرب الباردة.
الحرب الباردة:
لم تكن الحرب الباردة مجرد صراع بين أكبر دولتين في العالم، في إطار التنازع على قيادة العالم، و لم يكن ايضا مجرد مواجهة دائمة و مفتوحة في ساحات عدة، وصل فيها الصراع إلى المواجهة العسكرية الغير المباشرة، مثلا، في الكوريتين أو ڤيتنام أو العراق أو الصحراء الغربية في شمال إفريقيا او في كوبا و أمريكا اللاتينية ... بل إمتدت المنازاعات إلى أروقة المؤسسات الدولية كمجلس الامن أو الامم المتحدة، كما لم يقتصر الصراع على المواجهة على مستوى الخطاب الاعلامي و السياسي، و انتما تحول الى صراع ايديولوجي، و طبعا شكل المجال الاقتصادي قلب الصراع، لان الايديولوجيات المتصارعة و التي قسمت العالم الى قسمين، تمظهرات هذه الايديولوجيات و خلفياتها بوجه إقتصادي خالص، لكن ليتجاوز منطق المنافسة من أجل الربح و الخسارة، أو تحصيل المكاسب، و الارباح و الاسواق، فيتحول الى صراع هوياتي سياسي عقدي بمنطق إقتصادي، على اساس ان المحرك الاصل في الصراع هو المصالح المادية و الاقتصادية.
لقد كان في الحقيقة صراع إقتصادي ببعد فلسفي، حيث صراع فلسفتين و مدرستين فكرييتين، لهما من الخصوصية و الاختلاف في مقابل بعضهما، ما يحولهما الى نقيضين، في التنظيم و المعاملة الاقتصادية و الفكر التنظيري الاستشرافي، هذا الصراع الذي قسم العالم إلى معسكرين شرقي و غربي، كان في منطلقاته صراع قيم إقتصادية و إن تباينت، فإنها كانت تسعى الى إشعاعها الذي هو في الاصل بناء حضاري، و تنافس محمود شكل حلقة من تطور التاريخ البشري حيث كان التطور سريعا جدا، بفعل المنافسة، الى درجة ان العالم لم يستطع مواكبة التطورات التكنولوجية و العلمية و حتى الاحداث الاقتصادية و السياسية التي تخللت فصول، و مراحل الصراع، أو ما أصطلح عليه الحرب الباردة، لكن مع ذلك هذا التباين في القيم بين المعسكرين أدخل العالم في متاهات صراع، تكونت معه صراعات فرعية موازية عبر العالم، تحولت إلى دسائس و مؤامرات و حروب و تكتلات و تحالفات إنعكست بآثارها على كل مناحي الحياة العامة سلبا، بسبب تأثرها المباشر بالصراع السياسي و بقيم إقتصادية تحولت الى ايديولوجيات متطاحنة ...
نشأة الإيديولوجيات الإقتصادية:
بعد الدخول الى برلين، نهاية الحرب العالمية الثانية بواسطة الروس او الاتحاد السوفياتي، من الجهة الشرقية، و السيطرة عليها ميدانيا و عسكريا، في جزءها الشرقي، بما أنشأ كيان سياسي جديد هو المانيا الشرقية التابعة للمعسكر الشرقي. بينما الحلفاء دخلوا من الجهة الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، ما افضى إلى قيام دولة ألمانيا الغربية، هذا الدخول المتزامن، أنشأ صراع آخر بين جزئي ألمانيا، الشرقية و الغربية بمعزل عن الصراع الدولي القائم اصلا، بين القوتين الأكبر في العالم، كإفراز من إفرازات الحرب العالمية الثانية، طبعا كان كل طرف يحاول القضاء على الاخر ككيانات، بحجة توحيد الألمانيتين من جديد، بالتالي احتاج كل من الاخوين الغريمين الى مساعدة حلفاءه.
لذلك كل طرف منهما إعتمد على حليفه وداعمه، و مكتسحه في الحرب،. هكذا دعم الاتحاد السوفياتي ألمانيا الشرقية، فيما ذهبت امريكا قائدة العالم الغربي او الحر كما يسمي نفسه، الى دعم المانيا الغربية، و لان هذا الصراع تحول من ما بين الالمانيتين، إلى ما بين الحليفين القويين، اللذان يتنافسان على ريادة العالم، و بالتأكيد بشعار إعادة توحيد الألمانيتين، و بفعل توسع هذا الصراع الذي قسم العالم، على كل المستويات، شمل المنازعات السياسية و الحقوقية، التي أفرزت في مجال حقوق الانسان ميثاقنين وهما متنافيان من حيث الخلفية الفكرية، فقدم الاتحاد السوفياتي ميثاق الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية، بينما قدم الغرب ميثاق الحقوق الثقافية و السياسة، بما انعكس على طبيعة عمل المؤسسات الدولية التي برزت في ساحتها التجاذبات القيمية و الفكرية، و على رأسها مجلس الامن و الامم المتحدة، و لان كلا الدولتين كانتا تطمحان الى قيادة العالم، إعتبر كل واحد منهما نفسه هو المنتصر في الحرب العالمية الثانية على النازية، لذلك كان كل منهما يرى الكوكب مجرد حديقة خلفية، كل من القوتين تريد إدارته وفق منظورها الخاص، و قيمها و معاييرها، لتحقق مصالحها المادية و الاقتصادية، و بالنظرة الفلسفية و الفكرية التي تتناسب مع وعييها التاريخي كقوة، و تاريخها السياسي، و خلفيتها السياسية و العقدية، و القيم الثقافية التي تشكل منها و عيها و إمتداد هويتها.
المعسكر الشرقي:
أخذ العالم وضع قسمين شرقي مع الاتحاد السوفياتي، و غربي مع اوروبا و بقيادة أمريكا، هذا إنعكس أيضا على التحالفات الاقتصادية حيث مثل معسكر الشرق القيم الاشتراكية، أما الغرب فكان يجسد المعسكر الرسمالي. حاول كل طرف أن يتناول و يتداول مصالحه، بين حلفاءه، بناءا على قيم المنظومة الثقافية الاجتماعية و الاقتصادية التي تؤسس لوجوده التراكمي التاريخي الثقافي، فإعتمدت المدرسة الاشتراكية على نظرية كارل ماركس في تصوراته للإنتاج و التنظيم الاقتصادي الاجتماعي و الجماعي، حيث الملكية الجماعية طاغية، بدل الملكية الخاصة و الفردية، و حيث لم يكن أحد بعد الثورة البولشفية للبروليتاريا العمالية على الأريسطوقراطية، و النبلاء الحاكمين، و الكهنة، وراء القيصر الروسي، سنة 1917، لم يكن احد يملك أي شيء، لان الكل كان يملك كل شيء، فكل وسائل الانتاج و الموارد مؤممة، و ملكيتها عامة و عمومية لمصلحة الدولة السوفياتية، بما في ذلك المعامل و المصانع و الحقول و الاراضي الزراعية، و الموارد الطبيعية و المالية، كانت الدولة تقدم السكن النمطي على شكل شقق لا تتجاوز مساحتها السبعين إلى المئة متر حسب الحالة العائلية و عدد الأطفال في الاسرة، و على قدم المساواة للجميع، دون إستثناء، لم تكن هناك بطالة لان العمل حق للمجتمع على الفرد و يعد المساهمة التي بموجبها تُنال الحقوق، مقابل وسائل العيش المادية بشكل عيني، مثل الطعام، و الدواء، و السكن، و التعليم، و النقل، خصوصا الوسائل العمومية ...
كان كل شيء بالمجان تقريبا، لان كل شيء ملكيتة عمومية، و من حق الجميع الاستفادة منه، هنا إضطر الاتحاد السوفياتي إلى تغيير، و تعدييل هذه العقيدة الاقتصادية، التي قضت على كل انواع الطموح في نفوس المواطنين، بحيث أصبح كل شيء نمطي و رتيب الى روتيني، لايحتاج الفرد إلى ان يشتغل من أجل أي شيء، حتى الضروريات كالسكن، أو الطعام، و بسبب الحيف الذي كان يشعر به سكان العالم القروي، حيث الزراعة تحتاج إلى عمل متواصل طول السنة، و يكون ذلك بدون رواتب، لتأخذ الدولة المحصول مقابل ما يسد رمق العاملين في القطاع الزراعي، ما كان يسبب الاحباط للعاملين في الزراعة و سكان العالم القروي عموما، ما أدى إلى الهجرة نحو المدن بكثافة، فهاجر أكثر سكان القرى إلى المدن، مما خلق إشكال خطير في البنية السكانية و توزيعها، و الخطر الاكبر كان نتيجة إنخفاض كمية المحاصيل الزراعية، بفعل الهجرة القروية، نظرا لرفض النظام المعيشي، و نظام العمل، و الأجور من طرف السكان ما عرض الاتحاد السوفياتي إلى أزمة غذاء خطيرة، تفاقمت إلى أزمة إقتصادية مركبة و معقدة إنطلقت من قطاع الزراعة.
لذلك عدل السوفييت عقيدتهم الاقتصادية، بالاعتماد على السوفخوزات، و الكولخوزات، و هي انماط و أشكال من التنظيم الاقتصادي لكيانات إنتاجية، تملك فيها الدولة وسائل الانتاج، لكن العمال شركاء بالعمل، مقابل جزء من الإنتاج، او الارباح، فيما يشبه التعاونيات، و هي أشكال من التنظيم الاقتصادي إستلهمته و إقتبسته دول العالم الثالث من الاتحاد السوفياتي، و هي كيانات إقتصادية غير ربحية و بنفس تنظيم المقاولات الربحية، لكنها لا تدفع ضرائب لانها تنظيمات إقتصادية، لديها طابع المنفعة العامة، الغرض منها محاربة البطالة، بجعل العمال ملاك للتنظيم أو التعاونيات، و الارباح تقسم بين العمال، إنها طبعة جديدة و محدثة، في محاولة للإصلاح البنية التنظيمية بنفس العقيدة الاقتصادية، من الاشتراكية المعدلة، لتتكيف مع طموحات عموم الناس، و بث روح الامل في نفوس المواطنين، و تقليص البطالة و رفع الانتاجية.
إن الهجرة التي وقعت في الاتحاد السوفياتي كانت سبب رئيس في سقوط الاتحاد، لان الامر أدى إنخفاض الانتاج الزراعي، ايضا بسبب عدم تطور الزراعة، و أشكال تنظيمها.
إهمال ضرورة التطور:
كما ان الاتحاد أهمل البحث العلمي، و مسألة التطور الضرورية، مما أدى إلى تهالك و تقادم وسائل الانتاج في المصانع و الحقول و غيرها، نتيجة ضعف القدرة التنافسية إنتاجيا و تكنولوجيا، كما أصبحت المكننة الزراعية و تطوير كمية و حجم الانتاج إعتمادا على البحوث العلمية الزراعية، هدفا ثانويا للدولة امام تحديات أمنية و سياسية أصبحت تهدد الاتحاد في تلك الفترة، بعد ميل بعض جمهوريات الاتحاد إلى الانفصال، و بشكل اكبر في مناطق اوروبا الشرقية، و امام الحاجة الملحة للتطور عمل الاتحاد على الاكتفاء بالتركيز على التجسس على البرامج العلمية و التكنولوجية للغرب و محاولة مواكبتها، لكن هذا الاسلوب سرعان ما إنتهت جدواه عندما نشط الغرب أجهزة مهيكلة لمكافحة التجسس و منعه، لكن تجسس الاتحاد السوفياتي، على الغرب، بلغ ذروته عندما إستطاع الاتحاد إختراق البرنامج النووي الامريكي في بداياته، ما أعطى للإتحاد نفسا جديدا للمنافسة على ريادة العالم، و هذه المرة على مستوى سباق نووي هدد الامن و السلم عبر العالم. حجم الضرر في امريكا، جعل الغرب يراجع إجراءاته الامنية، و هذا خلق نوع من الحصار التقني على الاتحاد، ظهرت نتائجه لاحقا، عند سقوط الاتحاد، و ظهور نتائج خيارات كانت خاطئة في إدارة الاقتصاد و السياسة و غيرها.
المعسكر الغربي:
أما المدرسة الرأسمالية فقد رسم معالم عقيدتها السياسية و الاقتصادية، أيدغورناي، عندما ألغى القيود المفروضة على التجارة و الصناعة في فرنسا، منتشيا بحكاية كولبيرت، و هو يهتف دعه يعمل، دعه يمر، العالم يسير من تلقاء نفسه ... و قد كان أدم سميث محقا عندما قال اليد الخفية تقود الاسواق إلى التنسيق تلقيائيا، بين المصالح الشخصية الانانية، و المتضاربة للأفراد، بما يحقق في النهاية مصلحة الجميع، لان تفاعلات الاسواق لزوما هي بإتجاه نظام تلقائي عوضا عن الفوضى.
التطور مسؤولية فردية:
إن قيم المدرسة الرأسمالية تعتمد على الفردانية، و قيم الاستهلاك و الإشباع، و الطموح اللامحدود، مقياسها لتحقيق الاهداف، هو النجاح الفردي الشخصي، و تقديس الملكية الخاصة، بما في ذلك الملكية الفكرية، ما ادى إلى تحويل قيم الإزدهار و الابتكار و الاختراع و التنافس و التسابق نحو صناعة الثروة، حلم شخصي و ليس مسؤولية الدولة او المنظومة المؤطرة، فجعل من الصناعات المدنية الخفيفة و الثقيلة تعيش إزدهار و طفرة تاريخية غير مسبوقة، حتى أصبح التنافس بين الافراد و الكيانات الاقتصادية الخاصة في الغرب على درجة من القوة تجعل الشركات العالمية الكبرى تستطيع إسقاط دول، و تمكنت من السيطرة على حصص سوقية في الدولة الحليفة للدول الغربية، و الدول الغربية نفسها، وصلت هذه الحصص إلى أرقام معاملات بمئات الملايير من الدولارات، حتى صارت هذه الحصص السوقية للشركات الكبرى العالمية، أكبر من إقتصادات دول كاملة، و هذا فقط على مستوى قطاع من القطاعات، فكيف الحال بكل القطاعات الاقتصادية المتعددة، هنا الغرب كانت خياراته ناجحة إلى حد ما، حيث جعل إشكالية التطور العلمي و التكنولوجي و الصناعي، و تطوير الزراعة فرص يتنافس و يتسابق عليها عموم الناس في المجتمع، وفق قيم و معايير و منظومة، إقتصادية تؤطرها حرية المبادرة الفردية، لكن نقائصها ايضا كانت كثيرة، حيث ظهرت نقاط ضعف كبيرة و كثيرة في تركيب و تنظيم هذه المنظومة التنظيمية و القيمية، على رأسها غياب تغطية صحية و إجتماعية.
مظاهر القصور:
كان نجاح الافكار الاقتصادية، في هذه البيئة سريعا، لكنها معرضة للفشل و الانهيار السريع في كل لحظة، بفعل التطور السريع و المحموم بحثا عن الثروة و النجاح، و ايضا بسبب بروز منافسة شديدة بين الكيانات الاقتصادية، مما خلق مآسي إجتماعية، و حالات إفلاس متوالية، يعقبها إنتحار أو تشرد، بعد العجز عن سداد الديون أو الوفاء بالالتزامات، أو حتى تعثر المقاولات و الشركات لاسباب تنظيمية ... و هنا يظهر الوجه المتوحش للرأسمالية، التي تعتمد على الربح السريع و الانتاج الكثيف، لكنها كرست من جانب آخر، علاقة السيد بالقن، من خلال تبعية العمال إلى رب المقاولة، و تحكمه في مصيرهم بالطرد في اي وقت، بدون حماية إجتماعية او اي ضمانات من اي نوع، ان هذه المدرسة أعلت من شأن الفرد لكن للأسف، لا تعترف إلا بالافراد الناجحين، أما الاخرين ممن لم ينالوا حظا من التعليم، و فرص النجاح فإنهم يظلون عرضة للفقر، و البطالة، و الانهيارات الاجتماعية، و الاسرية، و النفسية مع سرعة ظهور الحلم، و سرعة تبدده، ميزة هذا النهج و ميزة القيم السريعة التحول، و الزوال و الفناء التي يتشكل منها، انها تشبه الحلم او الكابوس الذي سرعان ما نستفيق منه على الانهيارات الاقتصادية، و حيث كل القوة و الثروة، مجتمعة ، و ممكنة، لكنها سريعة و فجائية التحول، و الزوال، إنها المنافسة التي تطحن و لا ترحم، و لا تعترف إلا بالمصالح المادية و القوة، و حيث الفرد، يمكن أن يكون أكبر من الجماعة، بحسب مقياس النجاح، و مدى القدرة على جني الارباح.
نهاية الحرب الباردة:
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، دخل العالم مرحلة الاحادية القطبية، و التي عبر عنها الباحث سامويل هانغ تينغ تونغ، بنهاية التاريخ، في إشارة الى دخول العالم في مرحلة حكم الدولة العظمى و المهيمنة، بما أفرز حروب كثيرة مثل غزو أفغانستان و العراق، تعبيرا عن الوصول لمنتهى القوة، و للتمكن من تطويع و ردع العالم. فلم يعد هناك منافس لامريكا على قيادة العالم لتؤكد و ترسخ قيم أخلاقية ارادت امريكا التأسيس للهيمنة من خلالها، ظهرت في معتقلات غوانتانامو و أبو غريب، و المعتقلات السرية للتعذيب و المنتشرة في كل ارجاء العالم، و لتفوز بالمنافسة على ريادة العالم من خلال منظمة التجارة العالمية، و توقيع إتفاقية الغات في مراكش مرحلة التسعينات، و إتفاقيات الملاحة و التجارة الدولية ... و توسع الشركات الدولية مع ظهور قطاعات جديدة مثل الاتصالات، و الطيران و المعلوميات و الالكترونيك، و التعليم التخصصي و العالي الخاص، و إزدهار هذه القطاعات و اخرى، بفعل تطور وسائل التواصل الاجتماعي، و الانترنيت، و تطور حركة السياحة، و السفر، و تناقل رؤوس الاموال، و تناقل و تداول السلع و المنتوجات بسرعة كانت الى عهد قريب في خانة الخيال.
لاعب حديث لكن قوي:
هذه التطورات مكنت من صعود لاعب جديد في الساحة الدولية، و هو الصين، إنها دولة أسيوية في أقصى شرق أسيا، كانت منذ عقود قليلة توصف بأنها من دول العالم الثالث، تعداد سكانها 1,4، مليار نسمة، تمكنت من بناء ثاني أقوى إقتصاد في العالم، و هي تنافس على مرتبة الاقتصاد الاكبر في العالم، تمتلك الصين أكبر منظومة صناعية و تجارية و مالية في العالم، و أهم بنية تحتية و أحدثها على الاطلاق، و الاهم هو انها شريك مالي لتمويل مشاريع أغلب دول العالم، لدرجة اصبحت تنافس المؤسسات المالية الدولية، كما يتخرج من الصين كل سنة مئات الاف من المهندسين، و الدكاترة و الباحثين في مجالات الاقتصاد و العلوم و التكنولوجيا، بما يعطي للإقتصاد الصيني، شحنة سنوية جديدة كل سنة، من الرأسمال البشري، و الكفاءات الضرورية، للتطور و النجاح.
لقد إستفادت الصين بالفعل من ظروف الحرب الباردة، لتطور من نفسها بإعتبارها كيان سياسي، و منظومة إقتصادية، إلى درجة أنها أصبحت تحقق سبقا كبيرا في عدة مجالات تكنولوجية، و علمية، و أكاديمية، تضمن بها تفوقها الاقتصادي، و السياسي.
شكلت الصين في خضم هذه التغييرات، طفرة تاريخية في التطبيقات الاقتصادية، لخطط و برامج و إستراتيجيات، مكنت الصين من مشاريع عظيمة دمجت إقتصاديات العالم مثل طريق الحرير، أو الحزام و الطريق، و صناعة شمس إصطناعية بديلة للطبيعية، او التطور الهائل في القدرة على إنجاز مشاريع بنية تحتية معقدة، بسرعة هائلة، بفعل الاستثمار في التعليم، و إتاحة الفرص أمام الشباب الصيني للمساهمة في التطور، و البناء الحضاري للصين، أصبح التطور العلمي و التكنولوجي بنفس سرعة و وتيرة التطور الذي تحققه امريكا و الغرب مجتمعين، وهم المنافسين الشرسين للصين في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الصين كأمة، هذا المعطي أفرز تطور كبير في عدد الاختراعات في المجالات الهندسية و التقنية القابلة للتصنيع، بالاضافة إلى قدرة الصين على إستنساخ صناعات كاملة، من دول متقدمة، و طورتها حتى اصبحت الصين رائدا عالميا على رأس قطاعات إقتصادية، و تكنولوجية حيوية عبر العالم، وقوة مالية اصبحت لوحدها تنافس المؤسسات الدولية في عمليات التمويل العالمي الخاص و العمومي، لمشاريع عملاقة، مع القدرة على إنشاءها تقنيا و هندسيا ايضا، إذا فازت شركاتها بالمناقصات طبعا، اليوم الصين في مرحلة جديدة من توطين صناعاتها، في مختلف مناطق العالم لتقليص كلفتي النقل و التوزيع.
الخطة الصينية:
لقد عملت الصين بتركيز على تحقيق نتائج مخططاتها الاقتصادية، و التنموية، و قد عملت على تفعيل سياسة الابن الوحيد، في إطار مخطط سوسيو إقتصادي، يهدف الى إحداث توازنات بين معدل النمو، و معدل الزيادة السكانية، و من أجل التحكم في الموارد و النمو، حيث سمحت هذه السياسة فعليا من تحقيق الاهداف المتوقعة، لكن بعد إنتفاء الحاجة الي هذه السياسة، مؤخرا سمحت الدولة للمجتمع الصيني بإنجاب اكثر من طفل، و هذا يؤشر على مدى النجاح الذي حققته الصين، و انها في الطريق الصحيح بالفعل. لقد كانت الصين الجولة الثانية من المواجهة مع المعسكر الشرقي، لكنها مع كل ظروفها و طموحاتها تبقى الصين أكبرالدائنين للولايات المتحدة الامريكية، بديون تقدر قيمتها ب 30، ترليون دولار، امريكا المنهكة و المستنزفة بالحروب المتوالية لعقود، في العراق و أفغانستان ... و هي اليوم تستنزف في اوكرانيا، وفي غزة، في محاولة لدخول ملاعب المعسكر الشرقي، و ها هي تخوض المواجهة اليوم و في نفس الوقت تعيش ازمات إقتصادية مركبة و معقدة، مثل الركود مع التضخم و بتوازي، و هي ظاهرة إقتصادية غير مسبوقة، و تخوض المواجهة معزولة في مجلس الامن، الذي شكل على الدوام الجسر الذي من خلاله امريكا كانت تفرض مصالحها و مواقفها على العالم، و هي ايضا جريحة و محاصرة في باب المنذب، إنها مرحلة الافول، بينما الصين تتقدم بثباث، و حكمة، و قوة، و بدون سياسة هيمنة و غطرسة، كما تعودت أمريكا، انه الاستحواذ و الجشع و الاستبداد الاقتصادي الذي قاد امريكا الى هذا السقوط التاريخي، و هذه القيم هي التي أسقطت إمبراطوريات عظيمة سادت ثم بادت، بداية من بوابة الانهيارات الاقتصادية.
خاتمة:
في عالم تتزايد فيه سرعة التطور العلمي، و التكنولوجي، و الصناعي، و التجاري، و تزداد فيه فرص النجاح المالي، و الإقتصادي، أمام الدول، و الشركات، و الأفراد، اصبح بروز قوى جديدة، و لاعبين دوليين جدد، ظاهرة مشهودة، و بإستمرار، لقد بدأ العالم بالفعل يخرج من بين أيدي هيمنة القطب الواحد الأمريكي، خصوصا بعد دخول أمريكا في مرحلة إستنزاف ذاتي، بفعل تعدد الحروب، و النزاعات، و التحول التدريجي نحو عالم متعدد الأقطاب، خصوصا بعد نجاح دول متعددة في تنفيذ إسترتيجيات، و خطط للتنمية الإقتصادية، ما عجل بتطور قدراتها، و إمكانياتها، مثل البرازيل، و الهند، و إيران، و جنوب إفريقيا، و الجزائر... و طبعا تميزت أيضا هذه المرحلة من تاريخ العالم، بعودة روسيا الإتحادية، إلى مكانتها الدولية، و قوتها، و علو كعب الصين في ريادة الأعمال، و الظهور كقوة جديدة إقتصادية، و عسكرية، ما فرض ظهور تكتلات جديدة تحاول الدول التي نجحت في تحقيق قفزات نوعية ،و كمية في مجال التنمية الإقتصادية، و البشرية، حماية مكتسباتها من خلال هذه التحالفات، بسبب كثرة الأزمات الإقتصادية و السياسية و العسكرية لأمريكا.