الثقافة الاقتصادية
معالم ثقافة اقتصادية تبدأ باللغة الاقتصادية و معالم منظومة السياسات الاقتصادية.
يمكن استشفاف مفهوم الثقافة الاقتصادية من اقتصادات
العالم عمليا و من السياسات و القيم و المصطلحات و اللغة الاقتصادية لدول العالم المتباينة و المتعددة و المتنوعة،
و من خلال القطاعات الاقتصادية والتي يتشكل منها هذا الاقتصاد، وأيضا من خلال
الأنشطة التي تزاولها الكيانات الاقتصادية
والمقاولات في مختلف القطاعات، لأن الأمر مبني على المهارات الحرفية و المهنية، و
التقنية والعلمية، اذ لا يمكن أن تتصور أن قطاع صناعة الصلب متطور في بلد ما، من
داخل منظومات اقتصادية، دون أن يكون هذا التطور غير مبني على الثقافة الاقتصادية
والمعرفية التي تنتشر بين أفراد هذا المجتمع الذي كما سلف ذكره أن قطاع الصلب متطور فيه. و
بالتالي ما بين العلم كفكرة أو معرفة نظرية، و بين الوصول الى قطاعات متطورة بالضرورة، و لا يتم الا من خلال ثقافة متكاملة حية و قادرة على الفعل و التفاعل، والتكيف مع الظروف، ولها
من المفاهيم التي تعكس مسار التطور الذي مضى فيها هذا القطاع المثل الذي نحاول
البناء عليه لتوضيح أحد المفاهيم التي يمكن تغير الثقافة الاقتصادية على أساسه.
انها باختصار نسق معين من المعرفة تفسر سلوكيات، تتحرك في اطار السعي الاقتصادي،
مجموع هذه المعارف والسلوكيات تتشكل منها عناصر المجتمع ذات الحركة والأنشطة
الاقتصادية المتعددة، و بالتالي تتولد لغة، ومصطلحات، ومفاهيم، وآليات، وتشريعات
ومؤسسات، ومسار من التنمية فيه حتما من الانجازات ما يستحق أن يدرس، ومن الخيبات
ما يمكن اعتباره دروس تاريخية حقيقية، هكذا وعبر مسار تتشكل معالم الثقافة
الاقتصادية خطوة تلو الأخرى في درب ادارة صادقة تحاول دائما أن تقدم الأحسن وتهيئ
الظروف التي تمكن من الحفاظ واستمرارية وتماسك المنظومة الاقتصادية، وقدرتها على
الاستجابة الى الاحتياجات الملحة المعيشية للمنظومة البشرية التي تعيش في ظل
المعطيات، و المكونات، والمعرفة، والسلوكيات ذات الطابع الاقتصادي المادي ليتحقق
النمو الاجمالي للمنظومة الاقتصادية و البشرية.
دور الاستعمار:
في سياق تشكل الثقافة الاقتصادية المغربية عاشت ظروف
تاريخية، كانت محطات رسمت تاريخ وهوية الاقتصاد المغربي، في سنة 1912 بالضبط في 30
مارس، تنازل المغرب رسميا عن سيادته من خلال التوقيع على معاهدة الحماية، لصالح
السلطات والجيش الفرنسي بقيادة المقيم العام الفرنسي المارشال الليوطي، و من
الطبيعي أن تحاول قوة استعمارية استغلال مقدرات البلد الذي تحتله، هذا ما يفسر حتى
انتشار البنية التحتية و نوعها، و التي عملت سلطات الحماية الفرنسية على انشائها في مختلف المناطق التي ستستفيد منها
حصرا، هكذا نجد أن الطرق تم انشاؤها فقط للربط بين مناطق تتوزع فيها الثروات الطبيعية،
وبين المنافد البحرية.
مثلا خطوط السكة الحديد التي تصل بين مناجم "بوكراع" و بين الجرف
الأصفر على سواحل مدينة الجديدة، أو حتى ميناء الدار البيضاء المرتبط بالمناطق الزراعية للشاوية وتصدير المنتوجات
الزراعية، لكن لاحقا بفعل توسع المدينة تم توسع الميناء ليشمل أنشطة أخرى مثل
لوجستيك الشحن والتفريغ للحاويات. أو حتى محطة "لاسمير" وربطها بميناء
المحمدية للمنتوجات النفطية...
بالتالي نوع التأسيس في المنظومة الاقتصادية المغربية لم
يكن بالمرة سويا بل سلبيا لنجد أنه وحتى
على مستوى اللغة التي أفرزها مسار تطور الاقتصاد المغربي وثقافته مصطلحات مثل
المغرب النافع، وغير النافع وهكذا يمكن تفسير لماذا مناطق في المغرب تعيش نمط القرن 21 ومناطق أخرى يمكن تصنيفها زمنيا أنها
في القرن 14 ميلادي، لأن نمط حياتها و مدى اندماجه في اللغة و المفاهيم الاقتصادية
لم يتغير من هذا الزمن و ظل جامدا. ان الطريف
أن حوالي 80 % من المغاربة أميين رغم أن المغرب يعيش استقلال سياسي منذ 80 سنة عن
ثقافة اقتصادية مغربية، خصوصا أن النخب العلمية تعمل وفق ظروف سياسية وأمنية لا تسمح
بالانطلاق والعمل المؤثر.
مثال اخر المغرب
البلد الوحيد الذي تم فيه تشريع نص قانون يمنع الأطباء من القيام بأي نشاط للبحث
العلمي، وهذا إشكال أخطر يظهر حيث تظهر المنظومة التشريعية القانونية بفشلها في
مواكبة الاحتياجات الفورية لاقتصاد الوطني، و التي دورها الافتراضي ان تنظم وتؤطر البيئة
التجارية والاقتصادية، و بدورها تأسست هذه المنظومة التشريعية بنفس منطق إنشاء
البنية التحتية لخدمة المستعمر، ولتحول
المغرب إلى منصة لاستغلال موارده الطبيعية، بالتالي فإن الثقافة الاقتصادية
المغربية دس فيها الكثير من السم، و التدخلات الاجنبية حتى من طرف المؤسسات
المالية الدولية .
مثال اخر فعلى
الرغم من انطلاق عملية مغربة للأراضي الزراعية المصادرة التي تم الاستحواذ عليها
من طرف المعمرين الفرنسيين، و لم يتم تأطير عملي للفلاحين يحدث طفرة انتاجية او
علمية او تكنولوجية في مجال الزراعة.
ايضا في مثال
ثالث ورغم أن رئيس حكومة التناوب عبد الرحمان اليوسفي وقع على مرسوم يلزم الإدارة
العمومية بصياغة كافة الوثائق و المعاملات والوثائق باللغة العربية، إلا أن الوضع
ميدانيا لم يتغير وظلت النخب تسترزق باللغة الفرنسية التي تحتكر و تغلق الاقتصاد
على من يمتلكون الاليات اللغوية، كما تسترزق بالعلم والمعرفة في مجال الاقتصاد خارج
حدود المغرب، فالقوى الرديفة للاستعمار، تحتكر الاقتصاد، وتشتري ذمم النخب العلمية
وصمتها، ليبقى الاقتصاد يراوح مكانه، في شكله الريعي، وثقافة التواكل الاقتصادي
حيث المغرب يعيش على القروض والمساعدات الدولية والمنح، و هكذا يتضح ان كل
الاستثمارات و التوجهات الاقتصادية التي نهجها الاستعمار كانت سياسات استغلالية
فقط...
إنه هدر لمسار
أمة اقتصاديا، أنتج في النهاية اقتصاد أغلبه يتم في السوق السوداء، بدون ثقافة أو
هوية اقتصادية وبدون مهارات وتخصصات قد تشكل من معرفة أو سلوك اقتصادي صرف. إنها
ثقافة تصل فيها نسبة الإعالة في المغرب التي بلغت 60 % برسم سنة 2023،
والبطالة 13,5 % من مجموع السكان على أساس
سنوي ومعدل الفقر من بين الأعلى في العالم على أساس النسبة المئوية، ذلك أن المغرب
سجل نسبة 77,7 نقطة في مؤشر الفقر، فأين النخب ودورها في هذا المسار؟
دور النخبة العلمية:
من جملة مظاهر الاختلالات الموروثة من حقبة الاستعمار،
أن اللغة التي تتعامل الإدارة العمومية والمقاولات في معاملاتها التجارية
وعقودها... هي اللغة الفرنسية، التي مازالت تكرس هيمنة قوى رديفة تركها الاستعمار
عند خروجه سنة 1956، فتمسكت الأقلية الموالية للاستعمار بالموروث الكولونيالي، حتى
على المستوى اللغوي، نفس هذه الفئة الموالية للاستعمار والمستحوذة على الثروات
بحمايته الغير مباشرة في عصرنا الحالي، هذه الفئة حرصت على تشكيل نخبة علمية في
المجال الاقتصادي عن طريق البعثات العلمية والدراسية التي تخصص لأبناء الفئة
المتعاونة مع الاستعمار والوريثة لبقايا الفتات الذي يتبقى من موائد المستعمرين،
لذلك شكلت اللغة الفرنسية ولوقت طويل ذلك الجدار الحصين الذي يمكن هذه الفئة من
احتكار الاقتصاد، لأن المفارقة أن98 % من المغاربة غير ناطقين بالفرنسية، وبالتالي
لا يمكنهم الولوج للاقتصاد وثقافته و لا لغته، أو الانخراط في أي نشاط نظامي
وقانوني بفعل أنه لا يمتلك اللغة التي تتم من خلالها المعاملات و تتداول بها
المعلومات و المعطيات الاقتصادية، وعملية التواصل الاقتصادي والتجاري، وهذا ما يفسر
أن حوالي 60 % من المعاملات التجارية والاقتصادية تتم في السوق السوداء وعدم قدرة
الدولة على هيكلة العمليات التجارية أو الأنشطة المهنية في الاقتصاد.
إن النخب بدل أن تضطلع بدورها في نشر اللغة و المفاهيم،
والقيم الاقتصادية والعمل على الإنتاج الفكري والعلمي الذي يسمح بتحسس الخطوات
الضرورية لكل مرحلة للمضي في مسار البناء التقني والعلمي و المعرفي المفضي إلى
بروز زخم معرفي، وطفرات متعددة على مراحل للتطور في الوعي و الانتاج الذي يفتر ض
أن تقود حركته النخب العلمية الاقتصادية في المغرب.
التطورات التاريخية:
منذ فترة حكومة عبد الله إبراهيم عاش المغرب واقتصاده
مسار تطوره متذبذب، في مراحل ازدهار، وأزمات كبرى استدعت مراجعات متوالية لكامل
المسار والتوجه و السياسات، لعل الكل أيضا يتذكر شعارات أفرزتها توجهات اقتصادية محددة،
تمثلت في تبني خيارات اشتراكية، بعض هذه الشعارات كانت تتغنى بالاشتراكية الحسنية،
التي اعتمدت على مخططات خماسية، لكن المشرفون على إدارة الاقتصاد الوطني ارتكبوا
خطأ قاتل في مرحلة السبعينات، فعندما عمد العالم العربي إلى إيقاف تصدير النفط إلى الغرب في إطار الصراع الفلسطيني
الإسرائيلي، تجسد الخطأ في أن المغرب اعتمد على معطى مؤقت نتيجة أزمة سياسية عارضة
تسببت في ارتفاع الطلب على الفوسفاط ومشتقاته بسبب ندرة النفط المؤقت في الاسواق
العالمية، ما أدى إلى ارتفاع مداخيل المغرب في فترة معينة، الخطأ كان أن المغرب
دخل في استثمارات كبرى في مجال صناعة الكيماويات والأسمدة المشتقة من المواد الفوسفاتية.
سرعان ما تم إلغاء قرار العالم العربي، بحظر النفط و المواد الطاقية عن الغرب
فانخفض الطلب العالمي على الفوسفات ومشتقاته من جديد، المغرب بدوره تأثر بهذا
الانخفاض على الطلب بأثر تلقائي، فإنخفضت مداخيل المغرب الطارئة والعارضة المؤقتة
الناتجة عن عائدات بيع الفوسفات ومشتقاته، والمغرب في قلب مرحلة استثمارات كبرى في
منطقة الجرف الأصفر بالجديدة وآسفي...و حيث أوراش كبرى لبناء مصانع أو صناعات
كبرى، ومناطق صناعية في صناعة مشتقات الفوسفات، اضطر المغرب إلى الاقتراض بشكل
مفرط، وكثيف لإكمال الأوراش المفتوحة، لكن هذا الاقتراض لم يكن محسوب بطريقة جيدة،
بحيث لم يكن هناك موارد مالية إضافية لسداد أقساط القروض المتراكمة، وفي نفس الوقت
أصبح من الهدر الاستمرار في تمويل الاستثمار في مجال منتوجاته الفوسفاتية فانخفض
الطلب العالمي عليها، لأن ارتفاع الطلب الذي حدث في مرحلة معينة كان اضطرارا نتيجة
أزمة حظر النفط على الغرب المؤقت، فور تململ المفاوضات السياسية المتعلقة بالصراع
السياسي في الشرق الأوسط.
هذه الظروف أدخلت المغرب في علاقته مع المؤسسات الدولية
المقرضة، في مرحلة التقويم الهيكلي الأولي في بداية الثمانينات، وهي إعادة هيكلة
لديون المغرب بعد أن عجز عن سداد الأقساط، أدى هذا الأمر إلى تدخل المؤسسات
المقرضة للتدخل في تدبير الدولة، وتمويل الخدمات العمومية مثل الصحة، والتعليم،
والتجهيز والاستثمار... و اخرى من الميزانيات القطاعية التي تمت مراجعة ميزانيتها
أو ترشيدها باتجاه التقشف خدمة للدين العام، وتوفير القدرة على السداد بتقليص
مجموعة كبيرة من الميزانيات العمومية.
فشل المغرب بشكل تاريخي نتيجة عدم القدرة على التمييز بين معطيات ظرفية مؤقتة
و أخرى، للبناء عليها في استراتيجيات طويلة الأمد، ما رهن اقتصاد المغرب لعقود
متواصلة كرس فيها كل طاقاته الاقتصادية
لأداء وسداد الديون تم من خلالها تمويل استثمارات فاشلة لاحقا، وفي بداية
التسعينيات ازدادت الوضعية الاقتصادية سوءا عندما أعلنت الدولة رسميا انها في حالة
سكتة قلبية، عندما وصلت المؤسسات الدولية إلى إملاء الخصخصة وهنا تم بيع حصص في شركة اتصالات المغرب
للتخفيف من الأزمة ، وهي حالة تشبه التصفية والتسوية القضائية للشركات المفلسة بعد
أن عجزت الدولة عن سداد الديون ودخلت في حالة إفلاس، استمر الوضع في التدهور إلى
أن تم الإعلان عن فشل النموذج التنموي المغربي، هذا الإعلان جسد فشل ربع قرن من
محاولات الإصلاح التي امتدت من سنة 1999 إلى 2024.
اللغة و المفاهيم:
الوسط الذي تظهر فيه الحاجة الملحة لتشكيل لغة و المفاهيم
الاقتصادية الخاصة بكل تجربة على حدة، هي بغرض صياغة عقود الصفقات والعقود
التجارية والاتفاقيات الاقتصادية النظامية و الخاصة، ولخوض المفاوضات، وإجراء
المساومات التجارية أيضا نحتاج إلى لغة ومفاهيم اقتصادية لتسمية الظواهر
الاقتصادية المستحدثة و المعاني الجديدة الناتجة عن تطور الاداء و المعطيات
الاقتصادية لتطوير العلم والمعرفة في
المجال الاقتصادي وتوارثها جيل بعد جيل وتناقلها بين الناس المتعاصرة كذلك من أجل
تطوير التقنيات ومختلف المنظومات والمصارف التي تتبلور في الهوية الاقتصادية لتظل
اللغة ذلك الوعاء الافتراضي الذي يستطيع احتواء مختلف الظواهر الاقتصادية، وضبط
ماهيتها ومفاهيم لها في قالب لغوي قادر على توفير القدرة على التواصل والاتصال،
وضبط صياغة القرارات والخطط والاستراتيجيات وأفكار المشاريع... وجعلها قابلة
للمشاركة والتداول، بما يسمح أيضا بالتعاون والتكاثف والشراكة، وكلها عناصر
ومركبات تتشكل منها الثقافة الاقتصادية، بالإضافة إلى ذلك فإن تبلور لغة اقتصادية
بمصطلحات ومفاهيم تعكس مدى النضج والتطور في مختلف التجارب الاقتصادية وتبرز مدى
النجاحات التي حققتها كل تجربة واحتاجت معها إلى تطوير لغة اقتصادية، و أيضا من
جملة الاحتياجات إلى لغة اقتصادية مواكبة حركة التطورات والابتكارات والاختراعات
والنظريات الاقتصادية، مما يؤدي إلى بروز اللغة الاقتصادية كعنصر بالضرورة يوازي
درجة التطور العلمي في مجال العلوم الاقتصادية في كل منظومة مستقلة، وهذا العنصر
مؤسس و حيوي لتحقيق الطفرات الاقتصادية، إلى جانب أنه يعكس حجم الانخراط في
المنظومة الاقتصادية من قبل نسيج المقاولات، ومختلف التنظيمات الاقتصادية في
التفاعل مع مختلف التغيرات والمستجدات داخل عالم الاقتصاد.
مع الأسف ظل
المغرب في منأى عن الوعي بضرورة تطوير لغة اقتصادية، من خلالها يتمكن مختلف
الأطراف من إيجاد موطئ قدم في المنظومة الاقتصادية بفعل ان الاقتصاد مهرب الى
اللغة الفرنسية كعلم، و سلوكيات اقتصادية، و ايضا بسبب الاحتكار و الهيمنة على
الاقتصاد من طرف مجموعة محدودة جدا من الاطراف التي تحاول منع غيرها من العمل و
الولوج للبنيات و المعطيات الاقتصادية، بالتالي الاقتصاد و اشكالاته و نقاشاته
كلها تظل محصورة في نقاشات الصالونات النخبوية حيث بدون لغة يصعب ولوج الاقتصاد و
لغته.
ثم ان التجربة المغربية في مجال الاقتصاد لم تعش احداث
كبرى مثل طفرة عملية في مجال الاقتصاد او حتى مشاريع كبرى و منجزات حقيقية في الشأن
الاقتصادي دفع الى بروز الحاجة الى تطوير و النهوض بلغة تلخص مراحل التطور
التاريخي للمنظومة الاقتصادية المغربية و لغتها، لا تحكم و تأطر في هذه المعطيات،
و طبيعة الوعي الاقتصادي في المغرب المبني على ثقافة الريع و المأذونيات، و نظرا
لضعف التعليم في المغرب سجل حالة من غياب الابتكار و الاختراع و التجديد في بنية و
مفاهيم اللغة الاقتصادية التي تمثل احد اوجه الوعي العام و الثقافة الاقتصادية، في
بلد ما، و لا يقتصر الامر على قراءة في المؤشرات الرئيسية الاقتصادية، الى قواسم
مشتركة تختزل مسار التجربة الاقتصادية كما عاشها كل الاطراف المكونة لحدود الثقافة
الاقتصادية، بما حول المكونات الاقتصادية للمنظومة المغربية، عمليا من مؤسسة
استراتيجية، بما فيها المؤسسات الدستورية ذات الصلة بالشأن الاقتصادي لتدبير الشأن
العام، و السياق العام الاقتصادي، الى نادي خاص برجال الاعمال و المتنفذين، و
اللوبيات السرية كتنظيمات.
اليوم بلغ التطور التجاري بالنسبة لاقتصاد المغرب، مرحلة
من كل المراحل السابقة، لأنه في الماضي كان الاقتصاد يواجه مشاكل طبيعية بالمقارنة
مع باقي منظومات العالم، حيث اصبح الولوج لدائرة العمل مشروطة بمعايير غير منطقية
و لا قانونية، و لا اخلاقية ايضا.
الوضع الذي يعيشه الاقتصاد، و التنظيم الاقتصادي في
المغرب اصبح طابو يحظر نقاش عموم الناس فيه خصوصا مع الحكومة الحالية، و هي حكومة
رجال الاعمال التي يرأسها السيد اخنوش، و التي كرست فكرة ان الاقتصاد دائرة مغلقة
و خاص بالنخبة المفرنسة، و لا يشكل اقتصاد مفتوح، و في حالة تضارب مصالح و النافي
القانوني، بحيث ظهر انه من الواجب مراجعة مجموعة من القرارات، من اجل المصلحة
العامة، مثل مشروع تحلية مياه البحر الخاص بمدينة الدار البيضاء، و الذي لا نعرف
كيف تمرير مثل هذا المشروع كصفقة خاصة، في الوقت الذي كان يجب هذا المشروع
الاستراتيجي مشروع عمومي، لأنه حيوي و وجودي بالنسبة للمغاربة و يجب ان لا يكون
بأي حال مصير و وجود المغاربة مربوط بإرادة أي كان.
السياسات المتعاقبة:
لم يؤدي توالي و تعاقب الحكومات في المغرب الى بناء
تراكمي، يعطي للاقتصاد كمسار من التطور، بحيث يمكن البناء عليه من تشكيل معالم
هوية اقتصادية، لها مميزات و اسلوب و قطاعات معينة و تنظيم و هيكلة و يواكبها
تشريع و تقنين و زخم من التطور التقني و التكنولوجي و العلمي و المالي و التجاري و
لغوي... من تم تحقيق التفوق و النجاح فيها عبر توالي المخططات و الاستراتيجيات
التي هدفها احداث مزيد من التقدم.
يدعي المغرب إجمالا ان الاقتصاد الوطني، فلاحي يعتمد على
الزراعة كقطاع اساسي، و رغم وجود بنية تحتية قوية تتشكل من السدود و القنوات المائية
و المعاهد الزراعية و البيطرية، و كذلك الدخول في عمليات استصلاح ملايين
الهكتارات، الا ان القطاع ما زال يصنف من طرف خبراء منظمة الزراعة في العالم على
انه زراعة معيشية، و غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، و لم ترتقي
بعد الى مستوى الفلاحة الاحترافية المتطورة تقنيا و الانتاجية، بدليل ان المغرب ما
زال يستورد اكثر من 80 % من حاجياته من الحبوب خصوصا القمح، على الرغم من استفادة
القطاع من اعفاء ضريبي شامل، و مرد هذا الامر اي عدم تطور الزراعة و الفلاحة هو ان
الحكومات السابقة في المغرب، عندما تتولى السلطة فإن اول ما تقوم به هو الغاء و
ايقاف مشاريع الحكومية التي شرعت فيها الحكومات السابقة لها و لم تتم بعد، و التي
سبقتها بشكل كيدي و اطار صراع سياسي افرغ المبدأ القانوني القائم على استمرارية
المرفق العمومي و استمرارية المؤسسات الدستورية من محتواه، كما افرغ القطاع
الزراعي من محتواه.
بالتالي بعض الحكومات كانت لها رؤيا صناعية لتطوير
الاقتصاد، لذلك كانت تلغي مشاريع زراعية، او تقلص من ميزانياتها، على اعتبار أنها
ثانوية في توجهات و سياسات صناعية، و قد تحول ميزانيات قطاعات زراعية الى القطاع
الصناعي، و البعض الاخر من الحكومات كانت لها رؤيا تجارية، و اخرى برؤى خدماتية في
الاقتصاد... فلم تكن المشاريع الكبرى و الاستراتيجية تكتمل، و في بعض الاحيان تقوم
جهات معينة تحاول الاستفادة من هذه المشاريع القومية، فكانت تعطلها، او تحدث
العراقيل امامها من اختراقها.
لم يتشكل التركيز اللازم لمواصلة عمل الحكومة التي سبقت،
و البناء و المراكمة عليه، بإضافة الرؤى الجديدة التي تأتي بها الحكومات اللاحقة
بشكل تكاملي، بحيث ان كل من تولى السلطة التنفيذية تسفيه و تبخيس عمل من سبقه الى
الحد الذي يمكن من القول معه ان تعاقب الحكومات و السياسات الاقتصادية جاء بمنطق
تآمري على الاقتصاد الوطني، و حقق نتائج عكسية تماما للغرض من وراء تعاقب مجموعة
من القوى السياسية على السلطة التنفيذية، و هو اغناء التجربة الاقتصادية بسياسات
مختلفة بإختلاف الايديولوجيات السياسية، و الخلفيات الاقتصادية التي تتأسس عليها.
هذا يدل على مستوى الهواية و ليس مستوى الاحتراف الذي كان يدبر به ملف الاقتصاد في
المغرب، و يظهر الامر بجلاء اذا نظرنا الى معدلات النمو المسجلة على مدى سنوات ما
يسمى الاستقلال فمع توالي السنوات و الحكومات و السياسات كانت معدلات النمو تتقلص
عن السنة التي سبقتها، و يمكن القول ان الطبيعة الريعية للمنطق و الفكر الاقتصادي
المغربي ساهم بدوره في حدوث هذا التقلص الذي تولى لسنوات، حيث شهدنا تدخل الكثير
من القوى الدولية، لتحديد مسارات الاصلاحات الاقتصادية و المشاريع الكبرى و كذلك
الصفقات الكبرى، نتيجة الفشل الذي تسبب فيه تعاقب مختلف القوى السياسية دون حدوث بناء تراكمي و دون مواصلة السياسات
الاقتصادية السابقة.
حوالي نصف السكان في فقر مدقع، و دخلهم لا يتجاوز 8
دراهم في اليوم حسب احصائيات البنك الدولي، اي 0.8 بعملة الدولار الامريكي، و هو
اقل من دولار في اليوم، لتتضح الفوارق الاقتصادية و الاجتماعية المصنوعة بقصد و
تعمد، ليكون الاقتصاد اداء عقابية، و الافلات من رقابة هذه الاداة يكون عبر
الولاءات، و الحظوة و درجة القرب من اصحاب
القرار في غياب حضور قوي للقضاء التجاري و في النوازل الاقتصادية، ما ادى الى جعل الثقافة الاقتصادية المغربية، حالة نادرة و
فريدة بالمقارنة، مع بقية التجارب الاقتصادية عبر العالم.
في اطار
الاستدلال المسترسل حول مجموعة من الشواهد الاقتصادية، نورد نسب معينة و
معدلات ذات صلة مباشرة بمعطيات الثقافة الاقتصادية بالمغرب، على رأسها نسبة تهريب
الاموال، و التي بلغت حواي خمسين مليار درهم، اي خمسة مليارات امريكية، بالنسبة
لتبييض الاموال عبر عنها رقم 3363 تصريح مرتبط بجريمة غسيل الاموال أضف ايضا تقرير
الامم المتحدة و الانتربول و التي صنف المغرب كأكبر مصدر في العالم لمخدر الحشيش
في العالم، بعائدات سنوية تقدر بستين مليار دولار، لكن الاخطر يفد الى المغرب، حسب
منظمة اليونيسف اكثر من 200 الف بيدوفيل باحث عن المتعة الجنسية خصوصا لدى
الاطفال، في اطار خدمات سياحية جنسية في المغرب، ليتحول المغرب الى اكبر للدعارة
في العالم على الاطفال، حسب أرقام و احصائيات المنظمات الدولية، و على رأسها (
الدوبليو‑ تي‑ او) و هي المنظمة الدولية لمحاربة الدعارة و استغلال القاصرين،
ليتضح فعلا ان ادارة الاقتصاد المغربي، اهملت مؤشرات خطيرة على العنصر البشري و
التنمية السوسيواقتصادية و المهنية و
الحرفية و الثقافية، رغم انها جزء من
معطيات التنمية الاقتصادية و البشرية و الاجتماعية، بما يحيل على الاستنتاج الشخصي
ان هذه الحكومات في بعض الاحيان كانت تحمل اجندات انتقامية، او تخريبية لضرب
خصومها السياسيين. و ختما تكون هذه الاجندات ضد المصلحة العامة و ضد المغرب.
ما سبق يجعل الاجندات الانتقامية، تفتح الباب امام انشطة
اجرامية في اصلها، تحتاج الى تدخل القضاء بشكل عاجل، خصوصا عندما يتم تدمير
الخيرات البديلة عن طريق البروبغندا و التشهير، لتكون هذه الاجندات هي الوحيدة
المتاحة كخيارات امام العامة، و بمنطقها العقابي و الانتقامي، بينما تبقى قطاعات
الاقتصاد و موارده الطبيعية و المنح و الدعم الرسمي للمقاولات، يبقى حكرا على فئات
معينة نالت الرضى للولوج الى مجال المعاملات الاقتصادية في المنظومة المغربية.
الواقع الاقتصادي:
قد تكون الثقافة الاقتصادية هي مجموع المعرفة و
السلوكيات التي يبنى عليها اقتصادها، بالتالي يمكن ان نضيف على هذا المفهوم ان
مظاهر هذه الثقافة يمكن ان نستشفها، من المنجزات الكبرى و المؤشرات التي تعكس مدى
العمل الذي تم للوصول الى هذه المنجزات و المؤشرات التي وصل الى ارقام كبيرة فيها،
هذان المعطيان يحملان اشارات قوية جدا حول مدى نجاعة الثقافة الاقتصادية بكل
مكوناتها بما فيها اللغوية و العلمية و التقنية... فعندما نقول ان الصين مثلا لها
اقتصاد مبني على قيم اخلاقية مثل التفاني في العمل، و الانتاج الكثيف و الوفرة و
روح التطور...
لا يمكن ان نحدد حقيقة اثار تبني هذه القيم و مدى حقيقة
الايمان بها الا من خلال افرازات الاقتصاد الصيني من منجزات و مؤشرات، انها انعكاس
صادق و واقعي لمستوي الثقافة الاقتصادية و مدى تبلورها في مواكبة تطورات مسار
المنظومة الاقتصادية في المجمل.
المغرب بدوره لم يخرج من هذه القاعدة، و اذا كانت قيم
الاقتصاد المغربي، هي المحسوبية و الزبونية
و المحاباة و الرشوة و الاختلاس...
لان هذه القيم تنعكس بشكل مباشر في افرازات هذا الاقتصاد
من منجزات و مؤشرات و في المغرب اهم مؤشر يشير الى مضامين هذه الثقافة و هو معدل
النمو الذي لم يتجاوز معدل 2.3 % بعد ان حقق المغرب، زمن جائحة كرونا معدل نمو لم
يتجاوز 0.8 % و بالتالي ان تحليل بسيط و سطحي يمكن ان يستقرئ ان الاقتصاد المغربي
هش و ضعيف، انه ينمو بإيقاع بطيء جدا لم يتمكن حتى من توفير الحاجيات الاساسية في
المجتمع، كما انه يعكس نوع الثقافة الاقتصادية و مستواها، خصوصا اذا ربطنا معدل
النمو المتدني بنسبة الامية التي بلغت 80 % و نسبة الاعمال التجارية و الصفقات
التي تتم في السوق السوداء و بنسبة 60 % لتبقى فقط 40 % هي المسجلة في انظمة
الضرائب و البيانات الرسمية، هنا نقف بوضوح على قيم و مفاهيم الثقافة الاقتصادية و
من ارقام واقعية تعكس الوضع الميداني، و لعل معدل التنمية و النسبة المحققة فيه
يختزل حساب كل الانجازات و الارقام المحققة على اساس سنوي، و هذه الارقام المدرجة
كمعدلات نمو تعكس بحق ثقافة الفشل الاقتصادي الذي جعل و في سنة 2023 ما يتجاوز 87
% من الاسر تدهور مستوى معيشتها، بينما 9.2 % عرفت استقرارا في مستوى العيش، مقابل
مؤشر 3.8 % من الاسر شهدت استقرار في مستوى معيشتها لدرجة ان اكثر من 90 % من
المغاربة النشطين لا يتجاوز دخلهم الفعلي 12 دولار في اليوم، اذا حسبنا الناتج
الداخلي الوطني على عدد السكان، و اذا علمنا ايضا ان معدل البطالة هو 13 % من 52 %
من السكان النشطين، على اساس ان تعداد السكان تقريبا 40 مليون نسمة، جلهم يعيشون
في اوضاع مزرية، بدليل ان المغرب لم يتجاوز المرتبة 128 من اصل 191 دولة يتم اسقاط
التصنيف على مستوى التنمية فيها، و هي تشكل مجموع الدول المرتبة في لائحة التنمية
العالمية البشرية.
في هذه المرحلة
من البحث، نحتاج الى ادراج رتبة المغرب من حيث حجم الاقتصاد عالميا و هي رتبة
مهمة، و هي 55 عالميا، و هذا يوضح ان المغرب يتوفر على موارد و مقدرات مهمة و
كبيرة جدا، لكن يعاني من سوء التوزيع العادل للثروة، سببه الولاءات السياسية و
المحاباة و الفساد المستشري مع سياسات اقتصادية فاشلة، و واقع الافلات من العقاب
الممنهجة، هكذا و بالأرقام يتضح مستوى الثقافة الاقتصادية في المغرب و شكل القيم،
و المفاهيم و المبادئ السائدة و المهيمنة على تدبير المنظومة الاقتصادية.
يعبر حجم الناتج الاجمالي ضعيف بالمقارنة مع دول مجاورة، مثل اسبانيا التي لا تتوفر على اي موارد طبيعية و الجزائر، حيث بلغ 1330.2 مليار درهم، اي ما يعادل 130 مليار دولار، في الاصل هذا الرقم ضعيف و لا يستجيب لتطلعات و آمال الامة المغربية عموما، رغم انه كافي اذا احسن تدبيره بالشكل الامثل، لكن اذا ما قورن بحجم المديونية البالغ 110 مليار دولار و بالتالي يمكن القول ان الناتج الاجمالي القومي المغربي لا يمكنه حتى تغطية الديون فكيف ستقدم الدولة خدمات عمومية رديئة قائمة على الفساد و الرشوة... و ايضا و في ذات السياق يجب الاشارة الى نسبة الفقر على الاقل المسجلة في الدوائر الرسمية لتكتمل الصورة حيث يعيش الشعب المغربي ابشع مظاهر الفقر و الحرمان و البؤس و المرض.. عبر عن هذا الواقع بوضوح شديد صور الشباب المغربي و هو يحاول الهجرة الجماعية نحو المجهول، و هي نوع من انواع الهجرة غير النظامية فرارا من الفقر و البطالة و الضياع.
خاتمة:
على الرغم من ان المغرب يتوفر على كفاءات عالمية في مجال الاقتصاد، الا ان الظروف السياسية، و الاقتصادية، و الامنية تخنق هذه الكفاءات و تمنعها من العمل الحر و الطبيعي، في كل القطاعات و في كل المجالات يوجد متنفذين فاسدين و مقربين من السلطات، لا يمكن للقانون ان يطالهم، و بالتالي لا يمكن مواجهتهم بالجرائم التي يقترفونها في حق الشعب و الدولة و الاقتصاد المغربي، و بالتالي المحاباة و الرشوة و المعاملات الفاسدة و الخارجة عن القانون، و ايضا المناقصات المصممة على المقاس و المربوحة سلفا حتى قبل فتح الاظرفة او الصفقات العمومية التي تمنح كإمتيازات لا تتم اي محاسبة او مراقبة بعد نيل هذه الصفقات كأنها غنائم حرب، و ليس الامر متعلق بتدبير اقتصاد وطني يفترض فيه توفير معاش امة و شعب، و يدبر على اساس انه شأن افتصادي عمومي يحق و يمكن للجميع المشاركة في البناء و المساهمة في تطوير بنياته و المعرفة التي يقوم عليها، انه وضع كارثي و غير طبيعي البتة، لاننا نعيش حالة من احتكار الاقتصاد، و وضع معايير مدى القرب و المحسوبية و الزبونية و الجرائم الاقتصادية، التي تغطيها سياسات الافلات من العقاب.
موضوع مهم
شكرا على المجهود